أيـام ليـسـت كالأيـام
انطباعات يدونها من سويداء القلب
فضيلة الأستاذ عبد الناصر بن حنيفة
الذي استقى وارتوى منه متابعو الدبلوم في اللغة العربية
الراقية
إنها أيام ليست كالأيام؛
أيام وجد ومجد، وعزم وجزم، وجد وكد، وتعب ونصب، وبناء
وهناء، وعمل وأمل، وشوق وتوق، ومراس ودراس، وعقل ونقل،
ونظر وفكر، وذكاء ودهاء، وانتقاء واصطفاء، وفتوة وقوة،
وألفة ورأفة، وأب وحب، وروح وروح، وبشاشة وهشاشة،
وفضل ونحل، وسخاء وعطاء، وفلاح ونجاح، وحلاوة وطلاوة.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام رائعة، جمعت القلوب على مائدة الكتاب والسنة،
وربطت النفوس بحبل الأخوة والصداقة، ونفخت في الأنفس
روح التضامن والتكافل والتعاضد والتعاطف والتكاتف،
أيام أوقفت غطيطنا وأيقظتنا من سباتنا، أيام قربت
البعيد وجددت القديم وذكرت المنسي وكثرت القليل وأوجدت
المعدوم وبنت المهدوم ومكنت المستحيل وفتحت المقفل
وفصلت المجمل ووضحت المشكل، أيام ذكرتنا بماضينا التليد
وتراثنا المجيد وإنجازنا الحميد، أيام فتحت عيوننا
إلى حاضرنا المؤسف ومصابنا الأليم وخمولنا المستمر،
أيام جعلتنا نفكر في مستقبلنا الجديد مع أمل وطيد
وتخطيط سديد ومنهج متين ونظر ثاقب ورأى صائب وجهد
دؤب.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام دافعة، أوجدت فينا الصدق والوفاء، وأثارت فينا
الغيرة والحماس، وأفاضت مشاعرنا، وهيجت عواطفنا، وأنهضت
هممنا، وخلقت فينا الانسجام والانتظام، أيام ازدادت
فيها الرجولة والبطولة والبسالة، وكثرت فيها طلاقة
المحيا واللسان، أيام شحذت نظرنا وفكرنا، وأحدت بصرنا
وبصيرتنا، وقومت بواصرنا وخواصرنا، وقوت عقولنا، وصفت
أذهاننا، ونورت أفئدتنا، أيام ألهبت شعلتنا الفكرية،
وأشعلت جمرتنا اللغوية، وأبرزت المواهب اللغوية والإبداعية
الكامنة فينا، أيام دربتنا على التجديد والتحديث،
ومرنتنا على التصريح والتلميح، أيام تمرنا فيها على
الإيجاز والإسهاب، وتدربنا فيها على النقد والتحليل،
أيام صدقت في الواقع أن التواضع لا يعني إذلال النفس،
وأن التحديث بالنعمة لا ينافي الإخلاص، وأن التوكل
لا يمنع الثقة بالنفس، وأن الأناة لا يقصد بها التأخير
والتأجيل والإرجاء.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام حافزة، أيقنا فيها بالإتقان دون الإنهاء، وبالإيثار
دون الاستئثار، وبالتفاني دون التواني، وبالوئام دون
الخصام، وبالتعاون دون التغابن، وبالتراحم دون التلاحم،
وبالتضافر دون التشاجر، وبالتساند دون التعاند، وبالتبادل
دون التخاذل، وبالإدراج دون الإخراج، وبالوصل دون
الفصل، وبالرفع دون الوضع، وبالغرس دون القلع، وبالنصح
دون الفضح، وبالإصلاح دون الإفساد، وبالتعمير دون
التدمير، وبالتأصيل دون التلبيس، وبالتوعية دون التعمية،
وبالتيسير دون التعسير، وبالتبشير دون التنفير، وبالتوقير
دون التحقير، وبالاجتراء دون الانزواء، وبالتمتع دون
التمته، وبالحقيقة دون الصورة، وبالمعالي دون السفاسف.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام مفيدة، أفضت بنا إلى إعطاء كل ذي حق حقه، وإلى
وضع كل شئ في محله، وإلى اختيار الأفضل على الفاضل،
والأرجح على الراجح، والأنفع على النافع، والأجدر
على الجدير، والأصح على الصحيح، والأجمع على الجامع،
والأشمل على الشامل، والأكمل على الكامل، والأهم على
الهام.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام نافعة، عودتنا التشاور قبل التعامل والتخطيط
قبل التنفيذ، أيام عزمنا فيها على التقدم والترقي
والتطور، وأدركنا فيها قوتنا وضعفنا، وعرفنا فيها
صديقنا وعدونا، وعلمنا فيها من معنا ومن لنا ومن علينا،
أيام حولت اليأس إلى الرجاء والبؤس إلى الرخاء.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام كتابة وقراءة ومحادثة واستماع، أيام يراعة وبراعة،
ولسان وبيان، وكيان وحسان، وكتاب وخطاب، ونثر وشعر،
وحكمة ورحمة، ومثل ومهل، ولفظ وحفظ، وحرف وظرف، وحال
وبال، وحركة وبركة، وتعبئة وتهنئة، وإنشاء وإجداء،
ورسالة وطلالة، ومقال ونوال، ومحضر ومنظر، وتقرير
وتقدير، وترقيم وتقويم، وتخاطب وتجاوب، ومحادثة ومباحثة،
ومعاكسة ومنافسة، وتفاعل وتبادل، وفحص ومحص، وتأثيل
وتمثيل، وتصحيح وتنقيح، وتعليق وتعميق، وتحقيق وتدقيق،
وتدريب وتجريب، وإبداع وإمتاع، وإحسان وإتقان، وإجادة
وإفادة.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام حلوة، سبعة وعشرون يوما. إنها ساعات ليست كالساعات،
ساعات عبقة، مائة واثنتان وستون ساعة. أجل. هي جزء
من حياتي لم ولن أنساه أبد الآبدين. وهو في الحقيقة
غض، طري في حافظتي. أيام وساعات صرفتها في روضة الدبلوم
في اللغة العربية الراقية مع أحباب ذوي أبصار وألباب.
هي روضة أى روضة. يقضى منها العجب. قد رزق الله جل
علاه أصحابي الذين تمرغوا معي فيها طبعا سالما وعقلا
سليما وذكاء متوقدا وفكرا نيرا وقلبا كبيرا ولسانا
لسنا وشزنا جسيما وعلما واسعا وفهما عميقا ووعيا دقيقا
ونطقا صحيحا وخلقا كريما. عايشت هؤلاء الأعزاء؛ قوم
لا يشقى بهم جليسهم. إني أحبهم في الله. واستخرجت
منهم بفضله سبحانه وتوفيقه عديدا من الدرر والجواهر
والمراجين. وكل واحد منهم لؤلؤ فيه لآلئ، وجوهر فيه
جواهر، ومرجان فيه مراجين.
إنها أيام ليست كالأيام،
لقد بذل فيها أحبتي في الروضة جهودا ضخمة، جبارة في
تنمية قدراتهم في اللسان العربي قراءة وكتابة ومحادثة
واستماعا. جدوا فوجدوا، لجوا فولجوا، جهدوا فمجدوا،
صبروا فظفروا، ثبتوا فنبتوا. وأثبتوا بحمد ربنا تبارك
وتعالى بمنتهى الصمود والقوة ذاتهم في لغة الضاد.
وأصرح غير مبالغ أن قريحتهم تطورت إلى حد كبير. ويسعدني
ويثلج خلدي وعيني أن أرى فيهم الكفاءة والنبوغ في
مهارات اللغة الأربع؛ الكتابة والقراءة والمحادثة
والاستماع وأبصر فيهم ملكة استخدام هذا اللسان المليح
في المستوى الإداري والتعليمي والمهني والتجاري والإعلامي
و... و... و... "قل بفضل الله وبرحمته. فبذلك
فليفرحوا".
تشهد على تمكن وتبريز
الذين تنزهوا في الروضة في بنت عدنان هذه المجلة التذكارية
الغراء التي تحمل مشاركاتهم القيمة، المتعددة الأبعاد،
المتنوعة المواضيع. وأى شاهد بعد هذا؟ وأى دليل بعد
هذا؟
وليس يصح في الأذهان شئ = إذا احتاج النهار إلى دليل
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام ممتعة، ذقتها ذوق العسل. وإنها حقا لأحلى من
العسل. منذ يوم الدراسة الأول، بل منذ اللحظة الأولى
التي استؤنفت الدراسة فيها وسعدت بالاطلاع على وجوه
أصحابي المنيرة المشرقة الوضاءة في الروضة أصبحت لهم
وصرت أحدهم. واستمر هذا الحال إلى آخر ثانية من الدبلوم.
أحسنت الظن بأحبتي وأحسنوا الظن بي. كنت لهم وكانوا
لي. وكنت معهم وكانوا معي. ووقفت بجانبهم ووقفوا بجانبي.
ولصقت بهم ولصقوا بي. وأخذت منهم وأخذوا مني. وأعطيتهم
وأعطوني. واستفدت منهم واستفادوا مني. وربحت بهم وربحوا
بي. وتأثرت بهم وتأثروا بي. وتمتعت بهم وتمتعوا بي.
فبالجملة كانت دراستنا من البداية إلى النهاية فنا
وأدبا وذوقا ولذة وحلاوة وطلاوة وتجربة. ولي عن هؤلاء
الأماثل أحاديث. تنزع نفسي إلى أن أخوضها وأستفيض
فيها قصد تبادلها مع القراء الفضلاء، بيد أن المساحة
تضن بذلك. فعسى الله اللطيف الخبير أن يتيح لهذا فرصة
طيبة، ملائمة أهتبلها حق الاهتبال.
إنها أيام ليست كالأيام،
أيام منعشة، لم يستطع فيها الملالة أن تتغلغل فينا،
ولم يطق فيها الكلالة أن تتسلل إلينا، أيام طار عنا
فيها الخمول، وغاب عنا فيها الذهول، أيام ودعنا فيها
العجز، وتغلبنا فيها على الجبن، وطردنا فيها الكسل،
وغلبنا فيها الجمود، ولم يتطرق فيها إلينا الركود،
أيام هيلنا فيها التراب على التنفيس، وقضينا فيها
على التسويف، أيام أسقطنا فيها الإفراط، ودفنا فيها
التفريط، وهزمنا فيها التعصب، واستأصلنا فيها التحزب.
ما أبهجني اليوم!
وما أسعدني اليوم! من أشد فرحا مني اليوم؛ يوم تسطر
جهود هؤلاء الأعزاء بمداد من العسجد، يوم تتوج مساعيهم
بالشهادة لفظا وخطا على رؤس الأشهاد، يوم تدون مشاركاتهم
العربية في مجلة خاصة، يوم يعودون بذاكرتهم إلى الأيام
الميمونة التي قضوها في الدبلوم قلبا وقالبا، جسدا
وروحا، ظاهرا وباطنا، يوم يرون سعيهم أمامهم ماثلا
وراية الفوز حاملا! أعاينهم اليوم يعمر قلوبهم الحبور
ويعلو وجوههم النور وفي جباههم تحشم وفي شفاههم تبسم
وفي ألسنتهم ترنم. وجوههم مسفرة، ضاحكة، مستبشرة.
ألا ربحت تجارتهم وتضاعف رأسمالهم.
أحبابي الأفاضل في
روضة الدبلوم، أحيي فيكم احترامكم للسان العربي وحبكم
له وشغفكم به. أحيي فيكم عنايتكم الفائقة باللغة العربية
تعلما وتعليما. أحيي فيكم الكتب والصحف والمجلات العربية
التي تحتل مكانا كبيرا في مكاتبكم. أشتاق اشتياقا
متناهيا وأسعى سعى الظمآن للماء إلى رؤيتكم دائما
أصحاب لسان ذرب وذوي قلم مطواع في اللغة العربية وأولي
عزم ودقة وشرف ومكانة.
الدبلوم في اللغة
العربية الراقية لم يكن وليد ساعة أو ساعتين، ولا
خطة يوم أو يومين، ولا برنامجا خطط في منتصف الليل
ونفذ في الفجر، بل أخذ تخطيط البرنامج فحسب شهورا.
عمل عليه خلالها رجال أقوياء، أمناء بجد وجدية. ثم
وضع موضع الإنفاذ. والثاني لم يكن أيسر من الأول.
الإعداد والاستعداد والتدريس والتلقين والشرح والتفهيم
والتدريب والتمرين والضبط والتصحيح والتنقيح والتعليق
والتعميق والتحقيق والتدقيق والتجديد والتحديث والتوجيه
والتسديد والتحضيض والترغيب والتيسير والتبشير والمتابعة
والمراجعة والاستبانة واستطلاع الآراء والامتحان وما
إلى ذلك أعمال شاقة ومهام صعبة لقيت بصفتي مدرسا،
بل ميسرا وخادما من الاضطلاع بها عرق القربة.
برنامج الدبلوم في
حد ذاته أمه وأبوه ندوة الرحمانيين. وهي التي أقدمت
بكل خاطر على إقامة برنامج على هذا المنوال وإجراء
دبلوما من هذا القبيل. فجزاها الله خيرا. وتقبلها
وتقبل منها هذا المجهود الخير المبارك وأنبته نباتا
حسنا. وأجرى على يدها الغزير من الخير والبر. وكلأها
خادمة للإسلام والمسلمين ومنارة للعلم والعلماء. وهذا
العمل الطيب بلا مراءاة ولا مداراة دليل على حب ندوة
الرحمانيين للعلم وأهله وتمهيد الطرق والوسائل للسائرين
في طلبه، وشاهد على ولوع الندوة بلغة الضاد وحرصها
الشديد على جعلها لغة عامة في الأوساط العامة يتكلم
بها زيد وعمرو وبكر وخالد ... وتفعيلها.
اللغة العربية هي
أسمى وأرقى وأعلى وأجلى وأحلى وأغنى وأثرى وأسخى لغات
العالم. لقد ثبت مدى التاريخ أصلها وعنصرها وجوهرها
ومبناها ومعناها ومخها وعظمها وعصبها ولحمها وشحمها
وطهارتها ونقاوتها وروعتها وقيمتها ونفاستها وفصاحتها
وبلاغتها وعلومها وأدبها وثراؤها وسخاؤها وعطاؤها
وفضلها وشرفها. وقد حفظ القرآن الكريم والسنة النبية
الزكية هذا اللسان الأصيل الجميل أربعة عشر قرنا.
وسيحفظ بلا مرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
بنت عدنان فيها أصالة
وحضارة ونضارة وثقافة وخلق وعلم وفن وأدب ونقد وفصاحة
وبلاغة. وقد ظهر فيها فطاحل العلماء وأرباب البلاغة
وأساطين الكلام وعمالقة الفكر وجهابذة الفن وأدباء
عبقريون وكتاب مجيدون وخطباء مفوهون ورجال متفنون
وباحثون متبحرون ونقاد مبرزون وقادة العباد وسادة
البلاد. يا لها من لغة!
أنا راض ومقتنع بالسعى الذي قدر الله المولى أن يتجسد
بأيدينا ولو بشكل متواضع قدر إمكاننا وطاقتنا، متضرعا
إليه جل ثناؤه أن يكتب الأثر المنشود لهذا الجهد الجاهد
المبذول في سبيله إحياء وتفعيلا وتعميما للغة السامقة
الشامخة التي أنزل بها كتابه المبين وأنطق بها نبيه
الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ويدر للقائمين بهذا
المسعى النبيل نعما سابغة ثابتة ويغمرهم برحمته وبركته
ونصرته ومغفرته ويوفقهم إلى الثبات والصواب والسداد
ومزيد من الجهود القيمة الثمينة.
1432/01/27هـ
2011/01/03م